فصل: تفسير الآيات رقم (41- 42)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


الجزء الثاني

سورة الأنفال

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏1‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏3‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال‏}‏، يعني الغنائم واحدها غنيمة نفل، وكذلك قال لبيد‏:‏

إنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَل *** وَبِإِذْنِ الله رَيْثِي والعَجَلْ

قال ابن عباس ‏{‏عَنْ‏}‏ صلة في الكلام وإنّما هو‏:‏ يسألونك الأنفال أي الغنائم، ويقال‏:‏ فيه تقديم ومعناه يسألون عنك الأنفال، ويقال‏:‏ يسألونك لمن الأنفال‏؟‏ يقال‏:‏ إنما سألوا عنها لأنها كانت محرمة من قبل، فسألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال‏}‏ يعني الغنائم‏.‏ قال الفقيه حدثنا أبو الفضل بن أبي حفص قال‏:‏ حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن أبي داود قال‏:‏ حدثنا سعيد بن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي أمامة، عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فلقي العدو، فلما هزمهم الله تعالى، أتبعهم طائفة من المسلمين يقتلونهم، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم، واستولت طائفة بالعسكر والنهب؛ فقال الذين طلبوهم؛ نحن طلبنا العدو، وبنا نفاهم الله تعالى وهزمهم، فلنا النفل؛ وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا ينال العدو منه غرة، فهو لنا؛ وقال الذين استولوا على العسكر والنّهب‏:‏ والله ما أنتم بأحق منا، بل هو لنا نحن حويناه واستوليناه‏.‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال قُلِ الانفال لِلَّهِ والرسول فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ‏}‏، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم عن فواق أي عن سواء وروى أسباط، عن السدي قال‏:‏ كانت الأنفال لله ورسوله، فنسخ بقوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَئ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إِن كُنتُمْ ءَامَنْتُم بالله وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان والله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وعن عكرمة ومجاهد مثل ذلك‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ‏}‏، يعني اخشوا الله، وأطيعوه في أمر الغنيمة ‏{‏وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ‏}‏ أي ما بينكم من الاختلاف في الغنيمة‏.‏ ‏{‏وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏، يعني في أمر الصلح والغنيمة‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏، يعني إن كنتم صادقين‏.‏ ويقال‏:‏ معناه اتركوا المراء في أمر الغنيمة بأن كنتم مصدِّقين‏.‏ ثم نعت المؤمنين المصدِّقين، فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏؛ ويقال‏:‏ إنما المصدقون الذين إذا أُمروا بأمر في الغنيمة وغيرها من قبل الله عز وجل، خافت قلوبهم؛ ويقال‏:‏ إنما المصدقون الذين إذا ذكر الله، أي ذكر عندهم أمر الله؛ ويقال‏:‏ إذا أُمروا بأمر من الله تعالى، وجلت قلوبهم، يعني قبلت قلوبهم‏.‏

فسمى قبول القلوب وجلاً، لأن بالوجل يثبت القبول، لأنهم وجلوا عقوبة الله تعالى فقبلوه‏.‏ ثم قال ‏{‏إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا‏}‏، يعني قرئت عليهم آياته بالأمر والنهي في أمر الصلح أو غيره‏.‏ ‏{‏زَادَتْهُمْ إيمانا‏}‏، أي تصديقاً ويقيناً‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني زادتهم يقيناً بحكم الناسخ، مع تصديقهم بحكم المنسوخ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ تأويل الإيمان التصديق، فكل ما يتلى عليهم من عند الله صدَّقوا به فزادهم تصديقاً فذلك زيادة إيمانهم‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ زادتهم تصديقاً بالفرائض مع تصديقهم بالله‏.‏ ‏{‏وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏، يعني يفوضون أمرهم إلى الله تعالى، ويثقون به ولا يثقون بما في أيديهم من الغنائم، ويعلمون أن الله هو رازقهم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يُقِيمُونَ الصلاة‏}‏، يعني يتمونها في مواقيتها بركوعها وسجودها؛ ‏{‏وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏، يعني يتصدَّقون مما أعطيناهم من الأموال، وينفقونها في طاعة الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً‏}‏، يعني أهل هذه الصفة، هم المؤمنون الموحدون صدقاً وهم المصدِّقون‏.‏ ‏{‏لَّهُمْ درجات عِندَ رَبّهِمْ‏}‏، يعني فضائل عند ربهم في الآخرة؛ ويقال‏:‏ لهم منازل في الرفعة على قدر أعمالهم؛ ‏{‏وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ مغفرة لذنوبهم وثواب حسن في الجنة؛ ويقال‏:‏ الفتوح والغنيمة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ المؤمن مؤمن حقاً والكافر كافر حقاً في قوله‏:‏ ‏{‏هُمُ المؤمنون حَقّاً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ‏(‏5‏)‏ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏6‏)‏ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ‏(‏7‏)‏ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ‏}‏؛ قال القتبي‏:‏ معناه كراهتهم فيما فعلته في الغنائم، ككراهتهم الخروج معك‏.‏ ويقال‏:‏ معناه أولئك هم المؤمنون حقاً كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإنْ كان فريقاً من المؤمنين لكارهون؛ فكذلك ننفل الغنيمة لمن نشاء، وإنْ كرهوا ذلك‏.‏ ويقال‏:‏ هذا ابتداء القصة، ومعناه امض على وجهك كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجادلونك فِي الحق‏}‏؛ وكان هذا بعد خروجه إلى بدر، وكانت غزوة بدر في السنة الثانية من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة‏.‏ وفي تلك السنة، حولت القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وكانت غزوة بدر في شهر رمضان، وكانت قصته أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن عير قريش خرجت من الشام، فيهم أبو سفيان بن حرب ومخرمة بن نوفل في أربعين رجلاً من تجار قريش، ويقال أكثر من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ «هذه عِيرُ قُرَيْشٍ قَدْ أَقْبَلَتْ، فَاخْرُجُوا إلَيْهَا، فَلَعَلَّ الله أنْ يُنَفِّلَكُمُوهَا، وَتَتَقَوُّوا بِهَا عَلَى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ»‏.‏ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من جهينة، حليفين من الأنصار بأن ينظرا ويأتيا بخبر العير، فخرجا وأتيا وادي الصفراء، وهي منزل على طريق الشام، فقالا لأهل الصفراء‏:‏ هل أحسستم من أحد‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ فخرجا فمرا بجاريتين متلازمتين، فقالت إحداهما للأخرى‏:‏ اقضيني درهماً لي عليك‏.‏ فقالت‏:‏ لا والله ما عندي اليوم، ولكن عير قريش نزلت بموضع كذا، يقدمون غداً فأعمل لهم، وأقضيك درهمك‏.‏ فسمع الرجلان ما قالت الجاريتان فرجعا‏.‏ فجاء أبو سفيان بن حرب حين أمسى الصفراء، فقال لأهل الصفراء‏:‏ هل أحسستم من أحد‏؟‏ قالوا‏:‏ لا إلاَّ رجلين نزلا عند هذا الكثيب، ثم ركبا‏.‏ فرجع أبو سفيان إلى ذلك الموضع، فرأى هناك بعر الإبل فأخذ بعرة ففتها، فوجد فيها النوى فقال‏:‏ علائق أهل يثرب واللات والعزى؛ فأرسل من الطريق ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة، يخبرهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد اعترض لعيركم فأدركوه‏.‏

وكانت عاتكة بنت عبد المطلب، رأت قبل أن يقدم ضمضم بن عمرو بثلاثة أيام في منامها، كأنّ راكباً أقبل على بعير أورق ومعه راية سوداء، فدخل المسجد الحرام، ثم نادى بأعلى صوته‏:‏ يا آل فلان ويا آل فلان، انفروا إلى مصارعكم إلى ثلاث، ثم ارتقى على أبي قبيس ونادى ثلاث مرات‏.‏ ثم قلع صخرة من أبي قبيس فرماها على أهل مكة، فتكسرت فلم يبق أحد من قريش إلا أصابته فلقة منها‏.‏ فلما أصبحت، قصت رؤياها على أخيها العباس وقالت‏:‏ إني اخاف أن يصيب قومك سوء‏.‏

فاغتم العباس لما سمع منها، وذكر العباس ذلك للوليد بن عتبة، وكان صديقاً له، فذكر الوليد ذلك لأبيه عتبة بن ربيعة، فذكر ذلك عتبة لأبي جهل بن هشام‏.‏ وفشا ذلك الحديث في قريش، فخرج العباس إلى المسجد وقد اجتمع فيه صناديد قريش يتحدثون عن رؤيا عاتكة، فقال أبو جهل‏:‏ يا أبا الفضل، متى حدثت فيكم هذه النبية‏؟‏ أما رضيتم أن قلتم‏:‏ منا نبي، حتى قلتم‏:‏ منا نبية‏؟‏ فوالله لننتظرن بكم ثلاثاً، فإن جاء تأويل رؤياها؛ وإلا كتبنا عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب‏.‏ فقال له العباس‏:‏ يا كذاب، يا مصفر الاست، بالله أنت أولى بالكذب واللؤم منا‏.‏ فلما كان اليوم الثالث، جاء ضمضم، وقد شق قميصه، وجزع أذن ناقته، وجعل التراب على رأسه، وهو ينادي‏:‏ يا معشر قريش، الغوث الغوث، أدركوا عيركم، فقد عرض لها أهل محمد‏.‏ فاجتمعوا وخرجوا، وهم كارهون مشفقون من رؤيا عاتكة، ومعهم القينات والدفوف بطراً ورياء؛ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وكل يوم يطعمهم واحد من أغنيائهم‏.‏ وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة وأمر أصحابه بالخروج، فخرج معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار، وخرجوا على نواضحهم ليس لهم ظهر غيرها، ومعهم ثلاثة أفراس ويقال فرسان، فخرجوا بغير قوت ولا سلاح، لا يرون أنه يكون ثمة قتال‏.‏ فلما نزلوا بالروحاء، نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بخروج المشركين من مكة إلى عيرهم، وقال‏:‏ يا محمد، إن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين، إما العير وإما العسكر‏.‏ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بخروج المشركين من مكة إلى عيرهم، فشقّ ذلك على بعضهم، وقالوا‏:‏ يا رسول الله، هلا كنت أخبرتنا أنه يكون ثمَّ قتال فنخرج معنا سلاحنا وقوسنا، إنما خرجنا نريد العير، والعير كانت أهون شوكة وأعظم غنيمة‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ «أَشِيرُوا عَلَيَّ»‏.‏ فكان أبو بكر وعمر يشيران عليه بالمسير، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «أَشِيرُوا عَلَيَّ»‏.‏ وكان يحب أن يتكلم الأنصار، فقال سعد بن معاذ‏:‏ يا رسول الله امض حيث شئت، وأقم حيث شئت‏.‏ فوالله لئن أمرتنا أن نخوض البحر لنخوضنه، ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هاهنا قاعدون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏، ولكن نقول‏:‏ اذهب أنت وربك فقاتلا، ونحن معكما متَّبعون، فنزل‏:‏ ‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ‏}‏، يعني القتال ‏{‏يجادلونك فِي الحق‏}‏، يخاصمونك في الحرب‏.‏

‏{‏بَعْدَمَا تَبَيَّنَ‏}‏، يعني بعد ما تبيَّن لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به ‏{‏كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ‏}‏، يعني ينظرون إلى القتل‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ‏}‏، يعني إما العير وإما العسكر‏.‏ ‏{‏وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة‏}‏، أي تمنون غير ذات السلاح‏.‏ وقال القتبي‏:‏ ومنه قيل‏:‏ فلان شاك السلاح، ويقال‏:‏ غير ذات الشوكة، يعني شدة القتال‏.‏ ‏{‏تَكُونُ لَكُمْ‏}‏ الغنيمة؛ ‏{‏وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بكلماته‏}‏، يعني أن يظهر الإسلام بتحقيقه بما أنزل عليك من القرآن‏.‏ ‏{‏وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين‏}‏، يعني يهلك الشرك ويستأصله‏.‏ ‏{‏لِيُحِقَّ الحق‏}‏، أي يظهر الإسلام‏.‏ ‏{‏وَيُبْطِلَ الباطل‏}‏، يعني الشرك‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَرِهَ المجرمون‏}‏، أي المشركون‏.‏

فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سِيرُوا عَلَىَ بَرَكَةِ الله، فَإِنِي رَأَيْتُ مَصَارِعَ القَومِ»‏.‏ وجاءت قريش وأدركوا العير وأفلتوهم، فقال بعضهم لبعض‏:‏ إنما خرجتم لأجل العير، فلما وجدتم العير فارجعوا سالمين‏.‏ فقال أبو جهل‏:‏ لا نرجع حتى نقتل محمداً ومن معه‏.‏ فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل بدراً بجانب الوادي الأدنى، ونزل المشركون على جانبه الأقصى على الماء، والوادي فيما بينهما‏.‏ فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، حتى أوتر‏.‏ وكانت ليلة النصف من شهر رمضان، وقال في قنوته‏:‏ «اللَّهُمَّ لا تُفْلِتَنَّ أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشّامِ وَفُلاَناً» وفلاناً فباتوا تلك الليلة وقد أجنبوا وليس معهم ماء، فأتاهم الشيطان عند ذلك ووسوس إليهم، فقال لهم‏:‏ تزعمون أنكم على دين الله، وأنكم تصلون محدثين مجنبين، والمشركون على الماء‏.‏ وكان الوادي ذا رمل تغيب فيه الأقدام، فمطرت السماء حتى سال الوادي، فاشتد ذلك الرمل واغتسل المسلمون من جنابتهم وشرّبوا دوابهم؛ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الاقدام‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 11‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الاقدام‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 11‏]‏ وكان عليّ والزبير يحرسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء سقاة قريش يسقون الماء، فأخذهم عليّ والزبير، فسألاهم عن أبي سفيان، فقالوا‏:‏ ما لنا بأبي سفيان من علم‏.‏ فقالا‏:‏ فمع من أنتم‏؟‏ فقالوا‏:‏ مع قريش من أهل مكة‏.‏ فقالا‏:‏ كم هم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا ندري، هم كثير فضرباهم فقالوا‏:‏ هم قليل فتركاهم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تَضْرِبُونَهُمْ إنْ صَدَقُوكُمْ، وَتَتْرُكُونَهُمْ إنْ كذَبُوكُمْ»‏.‏ فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏

«كَم القَوْمُ» فقالوا‏:‏ هم كثير فلا ندري كم هم‏.‏ فقال‏:‏ «كَمْ يُنْحَرُ لَهُمْ في كُلِّ يَوْمٍ» فقالوا‏:‏ في يوم ينحر لهم عشرة جزر، وفي يوم تسعة‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «القَوْمُ ما بَيْنَ تِسْعِمائَةٍ إلى أَلْفٍ» وكانت عدتهم تسعمائة وخمسين، وكانوا قد خرجوا من مكة ألفاً ومائتين وخمسين، فرجع الأخنس بن شريق مع ثلاثمائة من بني زهرة مع العير، وبقي تسعمائة وخمسون رجلاً‏.‏ فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة ورفع يديه وقال‏:‏ «اللَّهُمَّ لا تُهْلِكْ هذه العِصَابَةَ فَإنَّكَ إنْ أَهْلَكْتُهُمْ، لا تعْبَد عَلَى وَجْهِ الأرْضِ أبَداً» فقال أبو بكر‏:‏ يا رسولَ الله، قد دنا القوم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أَبْشِرْ يا أبا بَكْرٍ، فإنِّي رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مُعْتَجِراً بِعِمَامةٍ، يقودُ فَرَساً بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ»‏.‏ فأمدَّه الله بجبريل في ألف من الملائكة، وميكائيل في ألف من الملائكة، وإسرافيل في ألف من الملائكة؛ فذلك قوله ‏{‏بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 125‏]‏‏.‏

فقال أبو جهل‏:‏ اللهم انصر أحب الدينين إليك، ديننا العتيق ودين محمد الحديث‏.‏ وقال عتبة بن ربيعة‏:‏ يا معشر قريش، إنّ محمداً رجل منكم، فإن يكن نبياً فأنتم أسعد الناس به، وإن يكن ملكاً تعيشوا في ملك أخيكم، وإن يكن كاذباً يقتله سواكم، لا يكون هذا منكم‏.‏ وإني مع ذلك لأرى قوماً زرق العيون لا يموتون، حتى يقتلوا عدداً منكم‏.‏ فقال أبو جهل‏:‏ يا أبا الوليد، جبنت وانتفخ سحرك‏.‏ فقال له عتبة يا كذاب ستعلم اليوم أيّنا الجبان فلبس لأمته، وخرج معه أخوه شيبة بن ربيعة، وخرج معه ابنه الوليد بن عتبة، فتقدموا إلى القوم وقالوا‏:‏ يا محمد، ابعث لنا أكفاءنا‏.‏ فخرج إليهم قوم من الأنصار، فقالوا‏:‏ من أنتم‏؟‏ فقالوا‏:‏ نحن أنصار الله ورسوله فقالوا‏:‏ لا نريدكم ولكن نريد إخواننا من قريش، فانصرفوا‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا بَنِي هَاشمٍ تَقَدَّمُوا إلَيْهِمْ» فقام عليّ بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وعليهم البيض فقال لهم عتبة‏:‏ تكلموا حتى نعرفكم‏.‏ فقال حمزة‏:‏ أنا أسد الله وأسد رسوله‏.‏ فقال عتبة‏:‏ كفوء كريم‏.‏ قال‏:‏ فمن هذان معك‏؟‏ فقال‏:‏ عليّ بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب‏.‏ فذهب الشيخ إلى الشيخ والشاب إلى الشاب والكهل إلى الكهل؛ فذهب عبيدة بن الحارث إلى شيبة بن ربيعة وكلاهما شيخان، وذهب عليّ إلى الوليد بن عتبة وكلاهما شابان، وذهب حمزة إلى عتبة بن ربيعة وكلاهما كهلان‏.‏ فقتل حمزة بن عبد المطب عتبة بن ربيعة، وقتل عليّ بن أبي طالب الوليد بن عتبة، واختلف عبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة في ضربتين، ضرب عبيدة بالسيف على رأس شيبة بن ربيعة، وضرب شيبة ضربة في رجل عبيدة‏.‏

فمال حمزة وعليٌّ على شيبة بن ربيعة، فقتلاه وحملا عبيدة إلى العسكر، فمات عبيدة في حال انصرافهم قبل أن يصل إلى المدينة، فدفن بمضيق الصفراء‏.‏ ففي هذا الخبر دليل من الفقه أن المشركين إذا طلبوا البراز، فلا بأس للمؤمنين بأن يخرجوا بغير إذن الإمام، ما لم ينههم عن ذلك؛ لأن الأنصار قد خرجوا قبل أن يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفيه دليل أنه لا بأس بأن ينصر أحد المبارزين صاحبه، لأن حمزة وعليّاً قد أعانا عبيدة على قتل شيبة؛ وفيه دليل أنه لا بأس بالافتخار عند الحرب، لأن حمزة قال‏:‏ أنا أسد الله، وأسد رسوله‏.‏ ولا بأس بأن يتبختر في مشيته في حال القتال‏.‏ ثم خرج مهجع مولى عمر بن الخطاب، فأصابته رمية بين الصفين؛ فكان أول قتيل يوم بدر وحرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على القتال، فقال عمير بن الحمام السلمي، وهو قائم وفي يده تمرات يأكلها‏:‏ يا رسول الله، إن قتلت في سبيل الله فلي الجنة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فألقى التمرات، وأخذ سيفه وشدّ على القوم، فقاتل حتى قتل‏.‏ فخرج أبو جهل بن هشام على جمل له لعنه الله فخرج إليه شاب من الأنصار، يقال له معاذ بن عمرو بن الجموح، فضربه ضربة على فخذه فخر أبو جهل عن بعيره‏.‏ فخرج إليه عبد الله بن مسعود، فلما رآه أبو جهل، قال‏:‏ يا ابن أم عبد لمن الدولة‏؟‏ وعلى من الدائرة‏؟‏ فقال له ابن مسعود‏:‏ لله ولرسوله يا عدو الله لأنت أعتى من فرعون، لأن فرعون جزع عند الغرق وأنت لم يزدك هذا الصرع إلاَّ تمادياً في الضلالة‏؟‏ ثم وضع رجله على عاتق أبي جهل، فقال له أبو جهل‏:‏ لأنت رويعنا بالأمس، لقد ارتقيت مرتقًى عظيماً‏.‏ فقتله ابن مسعود وحز رأسه، وجاء برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجداً ثم قال لأبي بكر، ويقال لعليّ‏:‏ «نَاوِلْنِي كَفّاً مِنْ تُرَابٍ»‏.‏ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب، وَرَمَاهَا في وجوه القوم وقال‏:‏ «شَاهَتِ الوُجُوهُ» لت في أعين القوم كلهم، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرون منهم، وحملوا على المشركين والملائكة معهم وقُذِف في قلوب المشركين الرعب، فقتلوا في تلك المعركة منهم سبعين، وأسروا سبعين، واستشهد يومئذ من المهاجرين ثلاثة عشر رجلاً‏.‏ ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسارى والغنائم إلى المدينة، واستشار النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الأسارى، فأقبل على أبي بكر فقال‏:‏

«مَا تَقُولُ يَا أبَا بَكْرٍ»‏؟‏ فقال‏:‏ قومك وبنو عمك، فإن قتلتهم صاروا إلى النار، وإن تُقِدْهُمْ فلعل الله يهديهم إلى الإسلام، ويكون ما نأخذه منهم قوة للمسلمين وقوة على جهاد أعدائهم‏.‏ ثم أقبل على عمر فقال‏:‏ «مَا تَقُولُ يَا أبَا حَفْصٍ» فقال عمر‏:‏ إن في يديك رؤوس المشركين وصناديدهم، فاضرب أعناقهم وسيغني الله المؤمنين من فضله‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إِنَّ مَثَلَكَ يَا أبَا بَكْرٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ مَثَلُ مِيكائِيلَ فَإنَّهُ لاَ يَنْزِلُ إلاَّ بالرَّحْمَةَ، وَمَثَلَكَ مِنَ الأَنْبِياءِ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ، حَيْثَ قَالَ ‏{‏رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏ وَمَثَلُ عِيسَى، حَيْثُ قَال ‏{‏إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 118‏]‏ وَمَثْلُكَ يا عُمَرُ مَثَلُ جِبْرِيلَ فَإنَّهُ يَنْزِلُ بِالعَذَابِ وَالشِّدَّةِ، وَمَثَلُكَ مِنَ الأنْبِيَاءِ مَثَلُ نُوْحٍ، حَيْثُ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏ وَمَثَلُ مُوسَى، حَيْثُ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاّهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطمس على أموالهم واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏»‏.‏ وروى سماك بن حرب، عن عكرمة، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر‏:‏ عليك بالعير، فإنه ليس دونها شيء‏.‏ فناداه العباس وهو أسير في وثاقه‏:‏ إنه لا يصلح‏.‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لِمَ»‏؟‏ قال‏:‏ لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ‏(‏9‏)‏ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ‏}‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى كثرة المشركين، علم أنه لا قوة لهم إلا بالله، فدعا ربه فقال‏:‏ «اللَّهُمَّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي النَّصْرَ، وإِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيعَادَ»‏.‏ فاستجاب له ربه ونزل ‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ واذكروا إذ تسألون ربكم وتدعونه يوم بدر بالنصرة على عدوكم‏.‏ ‏{‏فاستجاب لَكُمْ‏}‏، يعني فأجابكم ربكم‏:‏ ‏{‏أَنّي مُمِدُّكُمْ‏}‏، يعني أزيدكم ‏{‏بِأَلْفٍ مّنَ الملئكة مُرْدِفِينَ‏}‏، يعني متتابعين بعضهم على أثر بعض‏.‏ قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏مُرْدِفِينَ‏}‏ بالنصب، وقرأ الباقون بالكسر؛ وكلاهما يرجع إلى معنى واحد وهو التتابع‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ أمدهم يوم بدر بألف من الملائكة، وعددهم ثلاثة آلاف من الملائكة لغزوة بعده بدعائه وزاده ألفين فذلك خمسة آلاف من الملائكة ويقال هذا كله كان يوم بدر‏.‏ ثم قال عز وجل ‏{‏وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى‏}‏ يقول ما أرسل الله من الملائكة إلا للبشارة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن الملائكة لم يقاتلوا، وإنّما كانوا مبشرين‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ قاتلت الملائكة يوم بدر، ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ولا يوم حنين ‏{‏وَمَا جَعَلَهُ الله‏}‏، يعني ليس النصر بقلة العدد ولا بكثرة العدد، ولكن النصرة من عند الله‏.‏ ‏{‏أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ عزيز بالنقمة، حكيم حكم بالنصرة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وللهزيمة للمشركين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاس‏}‏، يقول‏:‏ ألقى عليكم النوم ‏{‏أَمَنَةً مّنْهُ‏}‏، يعني أمناً من عند الله‏.‏ وروى عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ النعاس عند القتال أمنة من الله، وهو في الصلاة من الشيطان‏.‏ قرأ نافع ‏{‏يُغَشّيكُمُ النعاس‏}‏ بضم الياء وجزم الغين ونصب النعاس؛ ومعناه يُغْشِيكُمْ الله النُّعَاسَ‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏يُغَشّيكُمُ النعاس‏}‏ بالألف ونصب الياء وضم النعاسُ، يعني أخذكم النعاسُ وقرأ الباقون بضم الياء وتشديد الشين ونصب النعاس ‏{‏يُغَشّيكُمُ النعاس‏}‏ ومعناه يغشيكم الله النعاسَ أمنةً منه والتشديد للمبالغة‏.‏

ثم قال ‏{‏وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ‏}‏، يعني بالماء من الأحداث والجنابة‏.‏ ‏{‏وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان‏}‏، يعني وسوسة الشيطان وكيده‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أصل الرجز العذاب، كقوله‏:‏ ‏{‏فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 59‏]‏ ثم سمي كيد الشيطان رجزاً، لأنه سبب العذاب‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ‏}‏، يعني يشدد قلوبكم بالنصرة منه عند القتال؛ ‏{‏وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام‏}‏، يعني لتستقر الرجل على الرمل، حتى أمكنكم الوقوف عليه‏.‏ ويقال‏:‏ ويثبت به الأقدام في الحرب‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 16‏]‏

‏{‏إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ‏(‏12‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏13‏)‏ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ‏(‏14‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ‏(‏15‏)‏ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملئكة‏}‏، يعني ألهم ربك الملائكة، ‏{‏إِنّى مَعَكُمْ‏}‏، أي معينكم وناصركم؛ ‏{‏فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ‏}‏، يعني بشروا المؤمنين بالنصر‏.‏ فكان الملك يمشي أمام الصف فيقول‏:‏ أبشروا فإنكم كثير وعدوكم قليل والله ناصركم‏.‏ ‏{‏سَأُلْقِى‏}‏، يعني سأقذف ‏{‏فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب‏}‏، يعني الخوف من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‏.‏

ثم علَّم المؤمنين كيف يضربون ويقتلون فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فاضربوا فَوْقَ الاعناق‏}‏، يعني على الأعناق ‏{‏واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ‏}‏، يعني أطراف الأصابع وغيرها، ويقال كل مفصل‏.‏ قال الفقيه‏:‏ سمعت من حكى، عن أبي سعيد الفارياني أنه قال‏:‏ أراد الله إلاَّ يلطخ سيوفهم بفرث المشركين، فأمرهم أن يضربوا على الأعناق ولا يضربوا على الوسط ويقال‏:‏ معناه اضربوا كل شيء استقبلكم من أعضائهم ولا ترحموهم‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ‏}‏، يعني ذلك الضرب والقتل سبب أَنَّهُمْ ‏{‏شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏، يعني عادوا الله ورسوله، وخالفوا الله ورسوله‏.‏ ‏{‏وَمَن يُشَاقِقِ الله‏}‏ ورسوله، يعني من يخالف الله ‏{‏فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ إذا عاقب‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏، يعني ذلكم القتل يوم بدر، ‏{‏فَذُوقُوهُ‏}‏ في الدنيا، ‏{‏وَأَنَّ للكافرين عَذَابَ النار‏}‏ يوم القيامة مع القتل في الدنيا يعني أن القتل والضرب لم يصر كفارة لهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏النار يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ‏}‏، يعني إذا لقيتم الذين كفروا بتوحيد الله تعالى يوم بدر ‏{‏زَحْفاً‏}‏، يعني مزاحفة، ويقال زحف القوم إذا دنوا للقتال، ومعناه إذا وافقتموهم للقتال؛ ‏{‏فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادبار‏}‏، يعني منهزمين‏.‏

‏{‏وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ‏}‏، يعني ظهره منهزماً يومئذ، يعني يوم حربهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يعني يوم بدر خاصة؛ ‏{‏إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ‏}‏، يعني مستطرداً للكرة يريد الكرة للقتال؛ ‏{‏أَوْ مُتَحَيّزاً إلى فِئَةٍ‏}‏، يعني ينحاز من فئة إلى فئة من أصحابه يمنعونه عن العدو‏.‏ قال أهل اللغة تحوَّزت وتحيَّزت أي انضممت إليه، ومعناه إذا كان منفرداً فينحاز ليكون مع المقاتلة، ‏{‏فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ الله‏}‏ وفي الآية تقديم، يعني ومن يولهم يومئذ دبره، فقد باء بغضب من الله، أي استوجب الغضب من الله‏.‏ ‏{‏وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير‏}‏ إلا منحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة‏.‏

وروي عن الحسن أنه قال‏:‏ كان هذا يوم بدر وغيره‏.‏ وعن الضحاك قال‏:‏ هذا يوم بدر خاصة، لأنه لم يكن لهم فئة ينحازون إليها‏.‏ وعن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة قال‏:‏ نزلت يوم بدر، لأنهم لم ينحازوا إلا إلى المشركين، لم يكن في الأرض مسلمون غيرهم‏.‏ وقد قال بعضهم بأن الآية غير منسوخة، لأنه لا يجوز للواحد أن يهرب من الاثنين وأن يهرب من الجماعة؛ وإذا لم يكن معه سلاح جاز له أن يهرب ممن معه سلاح، وإذا لم يكن رامياً جاز له أن يهرب من الرامي‏.‏

فإذا كان عدد المسلمين نصف عدد الكفار ومعهم سلاح، لا يجوز لهم أن يهربوا منهم؛ وإذا كان المسلمون اثني عشر ألفاً ومعهم سلاح، لا يجوز أن يهربوا من الكفار وإن كانوا مائة ألف، لأنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أرْبَعُمِائِةٍ، وَخَيْرُ الجُيُوشِ أرْبَعَةُ آلافٍ؛ وَلَنْ يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفاً مِنْ قِلَّةٍ إذَا كَانَتْ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً، فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا كَلِمَتَهُمْ وَاحِدَةً وَيُقَاتِلُوهُمْ، حَتَّى يَنْصُرَهُمُ الله تَعَالَى»‏.‏ والآية نزلت في الذي لا يجوز له الهرب‏.‏ وروى سليمان بن بلال، عن ثور بن زيد، عن أبي المغيث، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»‏.‏ قالوا‏:‏ وما هي يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «الشِّركُ بِالله، وَأكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحَصَنَاتِ»‏.‏ قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 21‏]‏

‏{‏فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏17‏)‏ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ‏(‏18‏)‏ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏19‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ‏(‏20‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ‏}‏ وذلك أن المسلمين كانوا يقولون‏:‏ قتلنا فلاناً وقتلنا فلاناً‏.‏ فأراد الله تعالى أن لا يعجبوا بأنفسهم، فقال‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ فما قتلتموهم؛ ‏{‏ولكن الله قَتَلَهُمْ‏}‏، يعني الله تعالى نصركم عليهم وأمدكم بالملائكة‏.‏ ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ‏}‏، يعني الله تعالى تولى ذلك‏.‏ وذلك حين رمى النبي صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب، فملأ الله تعالى أعينهم بها فانهزموا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ‏}‏ يعني لم تصب رميتك ولم تبلغ ذلك المبلغ؛ ‏{‏ولكن الله رمى‏}‏ الله تعالى تولى ذلك‏.‏ ويقال‏:‏ رمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالحربة، فأصاب أبي بن خلف الجمحي فقتله‏.‏

قرأ حمزة والكسائي ‏{‏ولكن الله رمى‏}‏ بكسر النون والتخفيف والله بالضم، وكذلك في قوله ‏{‏ولكن الله قَتَلَهُمْ‏}‏ وقرأ الباقون بنصب النون مع التشديد ونصب ما بعده ‏{‏ولكن الله رمى‏}‏‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا‏}‏، يعني لينصرهم نصراً جميلاً ويختبرهم بالتي هي أحسن، ويقال‏:‏ ولينعم المؤمنين نعمة بينة‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏، يعني سميع لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وعليم بإجابته‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏، أي الهلاك والهزيمة للكفار، ويقال معناه الأمر من ربكم‏.‏ ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين‏}‏، يعني مضعف كيد الكافرين، يعني صنيع الكافرين ببدر‏.‏ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ‏{‏مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين‏}‏ بنصب الواو والتشديد منونة ‏{‏كَيْدَ‏}‏ بنصب الدال، وقرأ عاصم في رواية حفص ‏{‏مُوهِنُ كَيْدِ‏}‏ بضم النون بغير تنوين ‏{‏كَيْدَ‏}‏ بكسر الدال على معنى الإضافة، وقرأ الباقون ‏{‏مُوهِنُ كَيْدِ‏}‏ بالتنوين والتخفيف ‏{‏كَيْدَ‏}‏ بالنصب والمُوهِنُ والمُوهَنُ واحد؛ ويقال‏:‏ وهنت الشيء وأوهنته، إذا جعلته واهناً ضعيفاً‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح‏}‏، يقول إن تستنصروا فقد نصركم الله حين قلتم؛ وذلك أن أبا جهل بن هشام قال‏:‏ اللهم انصر أحب الدينين وأحب الجندين وأحب الفئتين إليك، فاستجيب دعاؤه على نفسه وعلى أصحابه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِن تَنتَهُواْ‏}‏ عن قتاله، ‏{‏فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ من قتاله؛ ويقال‏:‏ إن أهل مكة حين أرادوا الخروج إلى بدر، أخذوا بأستار الكعبة وقالوا‏:‏ اللهم أي الفئتين أحب إليك فانصرهم‏.‏ فنزل ‏{‏إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح وَإِن تَنتَهُواْ‏}‏ عن قتال محمد صلى الله عليه وسلم وعن الكفر ‏{‏فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ من الإقامة عليه، ‏{‏وَإِن تَعُودُواْ‏}‏ لقتال محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏نَعُدُّ‏}‏ على القتل والأسر والهزيمة‏.‏ ‏{‏وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ *** فِتْنَتَكُمْ‏}‏، يعني جماعتكم ‏{‏شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ‏}‏ في العدد‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين‏}‏، يعني معين لهم وناصرهم‏.‏

قرأ نافع وابن عامر وعاصم في إحدى الروايتين‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الله‏}‏ بالنصب، والباقون بالكسر ‏{‏وَأَنَّ الله‏}‏ على معنى الاستئناف ويشهد لها قراء عبد الله بن مسعود والله مع المؤمنين‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏المؤمنين يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ في أمر الغنيمة والصلح‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ‏}‏، يعني لا تعرضوا عن أمره، ويقال عن طاعته، ويقال‏:‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ‏{‏وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ‏}‏ المواعظ في القرآن وفي أمر الصلح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏، يعني لم يفهموا ولم يتفكروا فيما سمعوا؛ ويقال‏:‏ قوله ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏، يعني لا يطيعون‏.‏ قال الكلبي‏:‏ وهم بنو عبد الدار، لم يسلم منهم إلا رجلان‏:‏ مصعب بن عمير وسويد بن حرملة‏.‏ وقال الضحاك ومقاتل‏:‏ أي سمعنا الإيمان وهم لا يسمعون، يعني المنافقين‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 26‏]‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏22‏)‏ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏23‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏24‏)‏ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏25‏)‏ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله‏}‏، يعني شر الناس عند الله ‏{‏الصم‏}‏ عن الهدى ‏{‏البكم‏}‏، يعني الخرس الذين لا يتكلمون بخير، ‏{‏الذين لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ الإيمان، يعني بني عبد الدار وغيرهم من الكفار، لم يسلموا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ‏}‏، يقول‏:‏ لو علم الله تعالى فيهم صدقاً، لأعطاهم الإيمان وأكرمهم به‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ‏}‏، يعني لو أكرمهم بالإسلام، ‏{‏لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏؛ يعني أعرضوا عن الإيمان؛ بما سبق في علم الله تعالى منهم أنهم لا يؤمنون‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه ولو علم الله فيهم خيراً، لأسمعهم الجواب عن كل ما يسألون عنه‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ‏}‏، يعني لو بيَّن لهم كل ما يختلج في نفوسهم، لأعرضوا عنه لمعاندتهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ استجيبوا لِلَّهِ‏}‏، يعني أجيبوا الله بالطاعة في أمر القتال‏.‏ ‏{‏وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ‏}‏ إلى القتال أو غيره‏.‏ وإنّما قال‏:‏ إذا دعاكم، ولم يقل‏:‏ إذا دعواكم، لأن الدعوة واحدة ومن يجب الرسول فقد أجاب الله تعالى‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَا يُحْيِيكُمْ‏}‏، يعني القرآن الذي به حياة القلوب، ويقال ‏{‏لِمَا يُحْيِيكُمْ‏}‏، يعني يهديكم في أمر الحرب الذي يعزّكم ويصلحكم ويقويكم بعد الضعف، ويقال‏:‏ ‏{‏لِمَا يُحْيِيكُمْ‏}‏، أي يهديكم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏لِمَا يُحْيِيكُمْ‏}‏، يعني لما يكون سبباً للحياة الدائمة في نعيم الآخرة‏.‏

‏{‏واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ‏}‏‏.‏ قال الفقيه‏:‏ حدثنا محمد بن الفضل قال‏:‏ حدثنا فارس بن مردويه، عن محمد بن الفضل، عن أبي صالح مطيع، عن حماد بن سلمة، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال‏:‏ يحول بين المؤمن ومعاصيه التي تسوقه وتجره إلى النار، ويحول بين الكافر وطاعته التي تجره إلى الجنة؛ ويقال‏:‏ تحول بين المرء وإرادته، لأن الأمر لا يكون بإرادة العبد وإنما يكون بإرادة الله تعالى، كما قال أبو الدرداء‏:‏

يُرِيدُ المَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاه *** وَيَأْبَى الله إلاَّ مَا أَرَادَا

ويقال‏:‏ يحال بين المرء وأجله، لأن الأجل حال دون الأمل‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ يحول بين الكافر والإيمان وبين المؤمن والكفر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يحول بين المرء وقلبه يعني حتى يتركه ولا يفعله‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏، يعني في الآخرة فتثابون بأعمالكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً‏}‏؛ قال مقاتل‏:‏ نزلت الآية في شأن عليّ وطلحة والزبير‏.‏ قال الفقيه‏:‏ حدثنا عمر بن محمد قال‏:‏ حدثنا أبو بكر الواسطي قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن يوسف قال‏:‏ حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن جويبر، عن الضحاك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً‏}‏ قال‏:‏ نزلت في شأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ حدثنا عمر بن محمد قال‏:‏ حدثنا أبو بكر الواسطي قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن يوسف قال‏:‏ حدثنا أبو معاوية، عن السدي، عن المعلى، عن أبي ذرّ أن عمر رضي الله عنه أخذ بيده يوماً فغمزها، فقال‏:‏ خل عني يا قفل الفتنة‏.‏ فقال عمر‏:‏ ما قولك قفل الفتنة‏؟‏ قال‏:‏ إنك جئت ذات يوم فجلست في آخر القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تُصِيبَنَّكُمْ فِتنْةٌ مَا دَامَ هذا فِيكُمْ»‏.‏ وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال‏:‏ جعلت أنا وعثمان فتنة لهذه الأمة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ قوله ‏{‏لاَّ تُصِيبَنَّ‏}‏ هذا على وجه النهي ومعناه اتقوا فتنة، ثم نهى فقال‏:‏ ‏{‏لاَّ تُصِيبَنَّ‏}‏، يعني الذين ظلموا منكم خاصة، أي لا يتعرض الذين ظلموا منكم خاصة لما نزل بهم، وقَال بعضهم هذا جواب الأمر بلفظ النهي مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِى النمل قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 18‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏، أي لمن وقع في الفتنة‏.‏ ثم ذكرهم النعم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ‏}‏، يعني واحفظوا نعمة الله عليكم إذ كنتم قليلاً في العدد وهم المهاجرون، ‏{‏مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الارض‏}‏؛ يعني مقهورون في أرض مكة‏.‏ ‏{‏تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس‏}‏، يعني يختلسكم ويذهب بكم الكفار‏.‏ ‏{‏فَآوَاكُمْ‏}‏ بالمدينة ‏{‏وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ‏}‏ بنصره يوم بدر‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كانوا بين أسدين، بين قيصر وكسرى، يخافون أن يتخطفهم الناس، وهم أهل فارس والروم والعرب ممن حول مكة‏.‏ ثم قال ‏{‏وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات‏}‏، يعني الحلال وهو الغنيمة‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏، يعني لكي تشكروا الله وتطيعوه وتعرفوا ذلك منه‏.‏ قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏27‏)‏ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏28‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏29‏)‏ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏تَشْكُرُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول‏}‏؛ روى أسباط عن السدي قال‏:‏ كانوا يسمعون من النبي عليه السلام الحديث، فيفشونه حتى يبلغ المشركين، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال‏:‏ ‏{‏تَشْكُرُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول‏}‏‏.‏ ويقال كل رجل مؤتمن على ما فرض الله عليه، إن شاء أداها، وإن شاء خانها‏.‏ وقال القتبي‏:‏ الخيانة أن يؤتمن على شيء فلا يؤدي إليه‏.‏ ثم سمّى العاصي من المسلمين خائناً، لأنه قد ائتمن على دينه فخان‏.‏ كما قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فالن باشروهن وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، ويقال‏:‏ نزلت الآية في أبي لبابة بن عبد المنذر، حين أشار إلى بني قريظة أن لا ينزلوا على حكم سعد وأشار إلى حلقه إنه الذبح‏.‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني قريظة من بعد انصرافهم من الخندق، ووقف بباب الحصن وفيه ستمائة رجل من اليهود، وقد كانوا ظاهروا قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم‏:‏ «يَا إخْوَةَ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ، انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ الله وَرَسُولِهِ»‏.‏ فقالت اليهود‏:‏ يا محمد، ما كنت فحّاشاً قبل هذا‏.‏ فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر، فدخل على اليهود فركبوا إليه وقالوا يا أبا لبابة، أتأمرنا بالنزول إلى محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ فأشار بيده إلى حلقه، يعني إنه الذبح إن نزلتم إليه‏.‏ فقال أبو لبابة‏:‏ والذي نفسي بيده، ما زالت قدماي من مكاني، حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله؛ وأوثق نفسه إلى سارية المسجد، حتى أنزل الله تعالى توبته ونزل‏:‏ ‏{‏تَشْكُرُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول‏}‏‏.‏ ‏{‏وَتَخُونُواْ أماناتكم‏}‏، يعني لا تخونوا أماناتكم‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أنها خيانة‏.‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ ‏{‏لاَ تَخُونُواْ الله والرسول‏}‏ يعني لا تظهروا له من الحق ما يرضى عنكم ثم تخالفوه في السر‏.‏ قال‏:‏ فإن ذلك هلاكاً لأنفسكم وخيانة لأماناتكم‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ‏}‏، يعني بلاء عليكم، لأن أبا لبابة إنما ناصحهم من أجل ماله وولده الذي كان عند بني قريظة‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏، يعني الجنة لمن صبر ولم يخن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَظِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله‏}‏، يعني إن تطيعوا الله ولا تعصوه، ‏{‏يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا‏}‏؛ يعني يجعل لكم مخرجاً في الدنيا ونجاة ونصراً في الدين؛ ويقال‏:‏ المخرج من الشبهات‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ مخرجاً في الدنيا والآخرة‏.‏ ‏{‏وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ‏}‏، يقول‏:‏ يمحو عنكم ذنوبكم، ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏؛ يعني يستر ذنوبكم وعيوبكم‏.‏ ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏، يعني ذو الكلام والتجاوز عن عباده‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ‏}‏؛ وذلك أن نفراً من قريش اجتمعوا في دار الندوة؛ وكانت قريش إذا اجتمعوا للمشورة والتدبير يجتمعون في تلك الدار، فاجتمعوا فيها وأغلقوا الباب لكيلا يدخل رجل من بني هاشم، ليمكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ويحتالوا في أمره؛ فدخل إبليس في صورة شيخ وعليه ثياب أطمار، وجلس معهم فقالوا من أدخلك أيها الشيخ في خلوتنا بغير إذننا‏؟‏ فقال‏:‏ أنا رجل من أهل نجد، ورأيت حسن وجوهكم وطيب ريحكم، فأردت أن أسمع حديثكم، وأقتبس منكم خيراً وقد عرفت مرادكم، فإن كرهتم مجلسي خرجت عنكم‏.‏ فقالوا‏:‏ هذا رجل من أهل نجد وليس من أرض تهامة، لا بأس عليكم منه فتكلموا فيما بينهم‏.‏ فقال عمرو بن هشام‏:‏ أرى أن تأخذوه وتجعلوه في بيت وتسدوا بابه، وتجعلوا له كوة لطعامه وشرابه حتى يموت‏.‏ فقال إبليس‏:‏ بئس الرأي الذي رأيت، تعمدون إلى رجل له فيكم أهل بيت، وقد سمع به من حولكم فتحبسونه وتطعمونه، يوشك أهل بيته الذين فيكم أن يقاتلوكم أو يفسدوا جماعتكم‏.‏ فقالوا‏:‏ صدق والله الشيخ‏.‏

ثم تكلم أبو البختري بن هشام قال‏:‏ أرى أن تحملوه على بعير ثم تخرجوه من أرضكم، حتى يموت أو يذهب به حيث شاء، فقال إبليس عدو الله‏:‏ بئس الرأي الذي رأيت، تعمدون إلى رجل أفسد جماعتكم ومعه منكم طائفة، فتخرجوه إلى غيركم، فيأتيهم سوء فيفسد منهم أيضاً جماعة، ويقبل إليكم ويكون فيه هلاككم‏.‏ فقالوا‏:‏ صدق والله الشيخ‏.‏

فقال أبو جهل‏:‏ أرى أن يجتمع من كل بطن منكم رجل، ثم تعطونهم السيوف فيضربونه جميعاً، فلا يدري قومه من يأخذون وتؤدي قريش ديته‏.‏ فقال إبليس‏:‏ صدق والله هذا الشاب‏.‏ فتفرقوا على ذلك، فأمر الله تعالى بالهجرة وأخبره بمكر المشركين فنزلت هذه الآية ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ‏}‏، يعني ليحبسوك في البيت أو يقتلوك بالبيت، ‏{‏أَوْ يُخْرِجُوكَ‏}‏ من مكة‏.‏

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب بأن يبيت في مكانه، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه ونام عليّ مكانه، وأهل مكة يحرسونه ويظنون أنه في البيت؛ ثم دخلوا البيت، فإذا هو عليّ رضي الله عنه فقالوا‏:‏ يا عليّ أين محمد‏؟‏ فقال‏:‏ لا أدري‏.‏ فطلبوه فلم يجدوه‏.‏ ‏{‏وَيَمْكُرُونَ‏}‏، يعني ويمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويريدون به الشر ‏{‏وَيَمْكُرُ الله‏}‏، يعني يريد بهم الهلاك حين أخرجهم إلى بدر فقتلوا‏.‏ ‏{‏والله خَيْرُ الماكرين‏}‏، يعني أصدق الماكرين فعلاً وأفضل الصانعين صنعاً وأعدل العادلين عدلاً‏.‏ قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 35‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏32‏)‏ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏(‏33‏)‏ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏، يعني القرآن‏.‏ ‏{‏قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا‏}‏، يعني قد سمعنا قولك‏.‏ ‏{‏لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا‏}‏، أي مثل هذا القرآن‏.‏ ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين‏}‏، نزلت في شأن نضر بن الحارث، كان يحدث عن الأمم الخالية من حديث رستم وإسفنديار، فقال‏:‏ إن الذي يخبركم محمد مثل ما أحدثكم من أحاديث الأولين وكذبهم، فقال له عثمان بن مظعون‏:‏ اتق الله يا نضر، فإنه ما يقول إلا حقاً، فقال النضر بن الحارث قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ‏}‏، يعني إن كان ما يقول محمد من القرآن حقاً، ‏{‏فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء‏}‏‏.‏ قال أبو عبيدة كل شيء في القرآن أمطر فهو من العذاب، وما كان من الرحمة فهو مطر‏.‏ وروى أسباط عن السدي قال‏:‏ قال النضر بن الحارث‏:‏ اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً، فأمطر علينا حجارة من السماء، ‏{‏أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ فنزل ‏{‏سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 1‏]‏ فاستجيب دعاؤه وقتل في يوم بدر‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلاثة صبراً النضر بن الحارث، وطعمة بن عدي، وعقبة بن أبي معيط‏.‏ وكان النضر أسره المقداد، فقال المقداد‏:‏ يا رسول الله أسيري‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الله وَرَسُولِهِ مَا يَقُولُ» فقال‏:‏ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيري‏.‏ فقال‏:‏ «اللَّهُمَّ أَغْنِ المِقْدَادَ مِنْ فَضْلِكَ»‏.‏ فقال المقداد‏:‏ هذا الذي أردت فنزل ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ‏}‏؛ وكان ذلك القول من النضر حين كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، فأخبر الله تعالى أنه لا يعذبهم وأنت بين ظهرانيهم، حتى يخرجك عنهم كما أخرج الأنبياء قبلك عن قومهم ثم عذبهم‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏، يعني يصلّون لله الخمس وهم أهل الإيمان؛ وقال مجاهد‏:‏ وهم يستغفرون يعني وهم مسلمون؛ ويقال‏:‏ وفيهم من يؤول مرة إلى الإسلام؛ ويقال‏:‏ وهم يستغفرون يعني وفي أصلابهم من يسلم‏.‏ وروي عن أبي موسى الأشعري أنه قال‏:‏ كان أمانان في الأرض، رفع الله أحدهما وبقي الآخر ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ‏}‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ وقال عطية‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ‏}‏، يعني المشركين حتى يخرجك منهم‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏، يعني المؤمنين‏.‏

ثم عاد إلى ذكر المشركين فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله‏}‏، يعني بعد ما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم‏.‏

‏{‏وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام‏}‏، يعني يمنعون المؤمنين عن المسجد الحرام‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ‏}‏؛ يعني المشركين‏.‏ قال الكلبي‏:‏ يعني ما كانوا أولياء المسجد الحرام؛ ويقال‏:‏ وما كانو أولياء الله‏.‏ ‏{‏إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون‏}‏، يعني ما كان أولياء الله إلا المتقون من الشرك، ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ توحيد الله تعالى‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ‏}‏، معناه وما لهم ألا يعذبهم الله ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً‏}‏، يعني لم تكن صلاتهم حول البيت إلاّ مكاءً، يعني إلا الصفير وتصدية، يعني التصفيق باليدين، إذا صلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام‏.‏ قرأ الأعمش ‏{‏مَا كَانَ *** صَلاَتِهِمْ‏}‏ بالنصب ‏{‏إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً‏}‏ بالضم؛ وهكذا قرأ عاصم في إحدى الروايتين، فجعل الصلاة خبر كان وجعل المكاء والتصدية اسم كان؛ وقرأ الباقون ‏{‏صَلاَتِهِمْ‏}‏ بالضم فجعلوه اسم كان ‏{‏مُكَاء وَتَصْدِيَةً‏}‏ بالنصب على معنى خبر كان‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ بتوحيد الله تعالى، فأهلكهم الله تعالى في الدنيا ولهم عذاب الخلود في الآخرة‏.‏ قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ‏(‏36‏)‏ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏37‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏39‏)‏ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم‏}‏ على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصدوا عن سبيل الله، يعني ليصرفوا الناس عن دين الله وطاعته‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ نزلت الآية في المطعمين يوم بدر، وهم الذين كانوا يطعمون أهل بدر حين خرجوا في طريقهم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَيُنفِقُونَهَا‏}‏‏.‏ وكانوا ثلاثة عشر رجلاً أطعموا الناس الطعام، فكان على كل رجل منهم يوماً، منهم‏:‏ أبو جهل، وأخوه الحارث، ابنا هشام وعتبة وشيبة، ابنا ربيعة ومنبه ونبيه، ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، وأبي بن خلف وغيرهم؛ يقول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً‏}‏، يعني تكون نفقاتهم عليهم حسرة وندامة، لأنها تكون لهم زيادة العذاب، فتكوى بها جنوبهم وظهورهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أحد‏.‏ وقال الحكم‏:‏ أنفق أبو سفيان على المشركين يوم أحد أربعين أوقية ذهباً‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُغْلَبُونَ‏}‏، يعني يهزمون ولا تنفعهم نفقتهم شيئاً‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ‏}‏، يعني إن القتل والهزيمة لم تكن كفارة لذنوبهم، فيحشرون في الآخرة إلى جهنم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب‏}‏، يعني الخبث من العمل والطيب من العمل، ‏{‏وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ‏}‏؛ قول الكلبي، وقال مقاتل‏:‏ ليميز الله الكافرين من المؤمنين، ويجعل في الآخرة الخبيثة أنفسهم ونفقاتهم وأقوالهم، فيركم بعضه على بعض جميعاً، فيجعله في جهنم؛ ويقال‏:‏ ليميز الله الخبيث من الطيب بين نفقة المؤمنين ونفقة المشركين، فيقبل نفقة المؤمنين ويثيبهم على ذلك، ويجعل نفقة الكفار وبالاً عليهم؛ ويجعل ذلك سبباً لعقوبتهم، فتكوى بها جباههم‏.‏ وقال القتبي‏:‏ فيركمه، أي يجعله ركاماً بعضه على بعض‏.‏ ثم قال ‏{‏أولئك هُمُ الخاسرون‏}‏، أي المغبونون في العقوبة‏.‏ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏لِيَمِيزَ الله‏}‏ بضم الياء مع التشديد، والباقون ‏{‏لِيَمِيزَ‏}‏ بالنصب مع التخفيف؛ ومعناهما واحد‏.‏ مَازَ يُميِزُ وَمَيَّزَ يُمَيِّزُ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏، يعني أبا سفيان وأصحابه ومن كان في مثل حالهم إلى يوم القيامة‏:‏ ‏{‏إِن يَنتَهُواْ‏}‏ عن الشرك وعن قتال محمد وعن المؤمنين، ‏{‏يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ‏}‏؛ يعني يتجاوز عنهم ما سلف من ذنوبهم وشركهم‏.‏ ‏{‏وَإِن يَعُودُواْ‏}‏ إلى قتال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ‏{‏فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين‏}‏ بنصرة أوليائه وقهر أعدائه‏.‏ ويقال‏:‏ يعني القتل يحذرهم بالعقوبة لكيلا يعودوا فيصيبهم مثل ما أصابهم؛ وقال الكلبي‏:‏ ‏{‏فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين‏}‏ أن ينصر الله أنبيائه ومن آمن معهم، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءَامَنُواْ فِى الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الاشهاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏‏.‏

ثم حثَّ المؤمنين على قتال الكفار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏، يعني لا يكون الشرك بمكة، ويقال‏:‏ حتى لا يتخذوا شركاء ويوحدوا ربهم، ‏{‏وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ‏}‏؛ يعني يظهر دين الإسلام ولا يكون دين غير دين الإسلام‏.‏ ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْاْ‏}‏ عن الشرك وعن عبادة الأوثان وقتال المسلمين، ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏؛ فينبئهم بأعمالهم‏.‏ ‏{‏وَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏، يعني أبوا وأعرضوا عن الإيمان، يا معشر المسلمين، ‏{‏فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ‏}‏؛ يعني حافظكم وناصركم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير‏}‏، يعني الحفيظ والمانع‏.‏ قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏41‏)‏ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَئ‏}‏ فعلمهم قسَّم الغنيمة وجعل أربعة أخمساها للذين أصابوها، وأمر بأن يقسم الخمس على خمسة أسهم؛ وقال بعضهم‏:‏ على ستة أسهم؛ وقال أبو العالية الرياحي‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة أسهم، أربعة لمن شهدها؛ ويأخذ الخمس، فيجعله على ستة أسهم‏:‏ سهم لله تعالى للكعبة، سهم الرسول، وسهم لذوي القربى أي قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ سهم الله ورسوله واحد‏.‏

وروى سفيان، عن قيس بن مسلم قال‏:‏ سألت الحسن بن محمد بن الحنفية عن قوله‏:‏ ‏{‏فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ فأن لله خمسه، قال‏:‏ هذا مفتاح الكلام، لله الدنيا والآخرة؛ ثم قال‏:‏ وقد اختلف بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في سهم الرسول وسهم ذوي القربى، فقال بعضهم‏:‏ للخليفة، وقال بعضهم‏:‏ لقرابة الخليفة، فاجتمعوا على أن جعلوا هذين السهمين في الكراع والعدة في سبيل الله تعالى، فكانا كذلك في خلافة أبي بكر وعمر‏.‏ وروى أبو يوسف، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال‏:‏ كان الخمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم على خمسة أسهم‏:‏ سهم الله ورسوله واحد، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل؛ وقسم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل‏.‏ وبهذا أخذ أبو حنيفة رضي الله عنه وأصحابه أن الخمس يقسم على ثلاثة أسهم، ولا يكون لأغنياء ذوي القربى شيء، ويكون لفقرائهم فيه نصيب، كما يكون لسائر الفقراء، وكذلك يُتَاماهم وابن السبيل منهم، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَقَالَ موسى ياقوم إِن‏}‏‏.‏ يجوز أن تكون متعلقة بقوله‏:‏ ‏{‏فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ‏}‏، إن كنتم آمنتم بالله عز وجل، ويجوز أن يكون معناه فاقبلوا ما أمرتم به من الغنيمة في الخمس إن كنتم آمنتم بالله، يعني إذ كنتم صدقتم بتوحيد الله، ‏{‏وَمَا أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان‏}‏؛ يعني وصدقتم بما أنزلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن يوم الفرقان يعني يوم بدر قال الكلبي‏:‏ أي يوم النصرة؛ ويوم بدر في أمر الغنيمة فَرَّقَ بين الحق والباطل‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ معناه وما أنزلنا من الفرقان يوم بدر فأَقرُّوا بحكم الله تعالى في أمر الغنيمة‏.‏ ‏{‏يَوْمَ التقى الجمعان‏}‏؛ يعني يوم جمع المسلمين وجمع المشركين‏.‏ ‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏، يعني على نصرة المؤمنين وهزيمة الكافرين‏.‏

ثم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا‏}‏، يعني اذكروا هذه النعمة إذ كنتم بالعدوة الدنيا‏.‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏بِالْعُدْوَةِ‏}‏ بالكسر، وقرأ الباقون بالضم؛ ومعناهما واحد وهو شفير الوادي‏.‏ ويقال عِدْوَةِ الوادي وعُدْوَتِهِ، يعني كنتم على شاطئ الوادي مما يلي المدينة‏.‏ ‏{‏وَهُم بالعدوة القصوى‏}‏، يعني من الجانب الآخر مما يلي مكة، ‏{‏والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ‏}‏؛ يعني العير أسفل منكم بثلاثة أميال على شاطئ البحر حين أقبلوا من الشام‏.‏

‏{‏وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ‏}‏، يعني ولو تواعدتم أنتم والمشركون بالإجماع للقتال، ‏{‏لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد‏}‏ أنتم والمشركون، ‏{‏ولكن‏}‏ جمع الله بينكم على غير ميعاد، ‏{‏لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً‏}‏؛ يعني كائناً وكان من قضائه هزيمة الكفار ونصرة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ‏}‏‏.‏ أي ليكفر من أراد الكفر بعد البيان له من الله تعالى، ‏{‏ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ‏}‏، يقول‏:‏ ويؤمن من أراد أن يؤمن بعد البيان له من الله تعالى‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ليهلك من هلك على الكفر بعد البيان، ويحيى من حي بالإيمان عن بينة ويقال‏:‏ هذا، وعيد من الله تعالى لأهل مكة يقول‏:‏ ليقم على كفره من أراد أن يقيم بعد ما بينت له الحق ببدر، حين فرقت الحق من الباطل، ويحيى يعني يقم على الإيمان من أراد أن يقيم بعد ما أرسلت إليه الرسول وأقمت عليه الحجة‏.‏ قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر، وابن كثير في رواية شبل البزي ‏{‏مِنْ‏}‏ بإظهار الياءين، والباقون بياء واحدة وأصله بياءين، إلا أن أحد الحرفين أدغم في الآخر، لأنهما من جنس واحد‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏بَيّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 47‏]‏

‏{‏إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏43‏)‏ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏44‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏45‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏46‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً‏}‏؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن العدو قليل قبل أن يلتفوا، فأخبر أصحابه بما رأى في المنام أن العدو قليل، فقالوا‏:‏ رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق والقوم القليل‏.‏ فلما التقوا ببدر قلّل المشركين في أعين المؤمنين لتصديق رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ‏}‏، يعني لجبنتم وتركتم الصف، ‏{‏ولتنازعتم فِى الامر‏}‏؛ يعني اختلفتم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏ولكن الله سَلَّمَ‏}‏، يعني ولكن الله أتمّ للمسلمين أمرهم على عدوهم، ويقال‏:‏ سلَّم يعني قضى بالهزيمة على الكفار والنصرة للمؤمنين، ويقال‏:‏ إذ يريكهم الله في منامك قليلاً يعني في عينك، لأن العين موضع النوم، أي في موضع منامك‏.‏ وروي عن الحسن قال‏:‏ معناه في عينيك التي تنام بها‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏، يعني إني عالم بسرائركم‏.‏

‏{‏وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم‏}‏، يعني يوم بدر ‏{‏فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً‏}‏ في العدد‏.‏ وروى أبو عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ لقد قللّوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي‏:‏ أتراهم سبعين‏؟‏ قال‏:‏ أراهم مائة‏.‏ حتى أخذنا رجلاً منهم فسألناه، فقال‏:‏ كنا ألفاً، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ‏}‏ معشر المؤمنين في أعين المشركين وذلك حين لقوا العدو قلَّل الله المشركين في أعين المؤمنين، لكيلا يجبنوا وقلل المؤمنين، في أعين المشركين، ليزدادوا جرأة على القتال حتى قتلوا، ولكي يظهر الله عندهم فضل المؤمنين‏.‏ ‏{‏لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً‏}‏، يعني إذا قضى الله تعالى أمراً فهو كائن، وهو النصرة للمؤمنين والذل لأهل الشرك بالقتل والهزيمة‏.‏ ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور‏}‏، يعني عواقب الأمور في الآخرة‏.‏

ثم حرّض المؤمنين على القتال فقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏الامور ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا‏}‏، يعني جماعة من الكفار فاثبتوا لهم وقاتلوهم مع نبيكم، ‏{‏واذكروا الله كَثِيراً‏}‏؛ يعني في الحرب، ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏؛ يعني تفوزون به‏.‏

ثم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ فيما يأمركم من القتال‏.‏ ‏{‏وَلاَ تنازعوا‏}‏، يعني لا تختلفوا فيما بينكم، ‏{‏فَتَفْشَلُواْ‏}‏؛ يعني فتجبنوا من عدوكم، ‏{‏وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ‏}‏‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يعني نصرتكم، وذهب ريحهم يوم أُحد حين نازعتموه؛ وقال الأخفش‏:‏ يعني دولتكم؛ وقال قتادة‏:‏ ريح الحرب‏.‏ وأصله في اللغة تستعمل في الدولة، ويقال الريح له اليوم يراد به الدولة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏واصبروا‏}‏، يعني لقتال عدوكم‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله مَعَ الصابرين‏}‏، يعني معين لهم وناصرهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ‏}‏، معناه قاتلوا لوجه الله تعالى، ولا تقاتلوا رياءً وسمعةً ولا تكونوا يا أصحاب النبي عليه السلام كالذين خرجوا ‏{‏مِن ديارهم‏}‏ وهم أهل مكة ‏{‏بَطَراً‏}‏ يعني أشراً‏.‏ وأصله الطغيان في النعمة‏.‏ ‏{‏وَرِئَاء الناس‏}‏، يعني لكي يذكْروا بمسيرهم، ويقولوا‏:‏ تسامع الناس بمسيرنا‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ خرجت قريش وهم تسعمائة وخمسون مقاتلاً، ومعهم مائتا فرس يقودونها، وخرجوا ومعهم القينات يضربون بالدفوف ويغنون بهجاء المسلمين‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏، يعني يصرفون الناس عن دين الإسلام‏.‏ ‏{‏والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏، يعني عالم بهم وبأعمالهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 51‏]‏

‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏48‏)‏ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏49‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏50‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم‏}‏ يعني مسيرهم ومعناه أن خروجهم لما كان للشيطان، زين لهم الشيطان أعمالهم وذلك أن أهل مكة لما وجدوا العير، أرادوا الرجوع إلى مكة، فأتاهم إبليس على صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني، فقال لهم‏:‏ لا ترجعوا حتى تستأصلوهم، فإنكم كثير وعدوكم قليل‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس‏}‏، يعني لا يطيقكم أحد لكثرتكم وقوتكم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان‏}‏، يعني اجتمع الجمعان، جمع المؤمنين وجمع المشركين، ‏{‏نَكَصَ على عَقِبَيْهِ‏}‏؛ أي راجعاً وراءه؛ فقال له الحارث بن هشام‏:‏ أين ما ضمنت لنا‏؟‏ ‏{‏وَقَالَ إِنّي بَرِئ مّنْكُمْ إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ‏}‏‏.‏ فقال له الحارث‏:‏ وهل ترى إلا جعاشيش أهل يثرب‏؟‏ والجعاشيش جمع جعشوش، وهو الرجل الحقير الدميم القصير‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏إِنّي أَخَافُ الله والله شَدِيدُ العقاب‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ خاف إبليس أن يأخذه جبريل أسيراً، فيعرفه الناس فيراه الكفار، فيعرفونه بعد ذلك، فلا يطيعونه؛ ولم يخف على نفسه الموت والقتل، لأنه كان يعلم أن له بقاء إلى يوم ينفخ في الصور‏.‏ قال إبليس‏:‏ إني أرى ما لا ترون، أي أرى جبريل معتجراً بردائه يقود الفرس، فلما تولى قالوا هزم الناس سراقة‏.‏ فسار سراقة بعد رجوعهم إلى مكة، وقال‏:‏ والله ما شعرت بمسيركم، حتى بلغني هزيمتكم‏.‏ فقالوا له‏:‏ ألم تأتنا يوم كذا وكذا‏؟‏ فحلف أنه لم يحضر؛ فلما أسلموا، علموا أنه كان إبليس‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ لم يجتمع جمع قط منذ كانت الدنيا أكثر من يوم بدر، وذلك أن إبليس جاء بنفسه، وحضرت الشياطين، وحضر كفار الجن كلهم، وتسعمائة وخمسون من المشركين، وثلاثمائة وثلاثة عشر من المؤمنين، وتسعون من مؤمني الجن، وألف من الملائكة‏.‏ وروي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ هذه السورة، كان يقول‏:‏ طوبى لجيش كان قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبارزهم أسد الله، وجهادهم في طاعة الله، ومددهم ملائكة الله، وجارهم أمين الله، وثوابهم رضوان الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏، يعني شكاً ونفاقاً‏.‏ قال الحسن‏:‏ هم قوم من المنافقين لم يشهدوا القتال يوم بدر، فسموا منافقين؛ وقال الضحاك‏:‏ نزلت في عبد الله بن أبيّ وأصحابه؛ ويقال‏:‏ معناه إذ يقول المنافقون وهم الذين في قلوبهم مرض‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت الآية في الذين أسلموا بمكة وتخلفوا عن الهجرة، فأخرجهم أهل مكة إلى بدر كرهاً، فلما رأوا قلة المؤمنين ارتابوا ونافقوا، وقالوا لأهل مكة‏:‏ ‏{‏غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ‏}‏‏.‏ وقاتلوا مع المشركين فقتل عامتهم‏.‏

يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏، يعني يثق بالله ولا يثق بغيره، ‏{‏فَإِنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ بالنقمة، ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ حكم بهزيمة المشركين‏.‏

فلما قتلوا ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، فنزل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ‏}‏، يعني ولو ترى، يا محمد إذ يتوفى الذين كفروا، يعني حين يقبض أرواح الذين كفروا ‏{‏الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ‏}‏ عند قبض أرواحهم، ‏{‏وأدبارهم‏}‏، ‏{‏***و‏}‏ يقول لهم الملائكة يوم القيامة‏:‏ ‏{‏وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق‏}‏؛ ولم يذكر الجواب، لأن في الكلام دليلاً عليه، ومعناه لو رأيت ذلك لرأيت أمراً عظيماً‏.‏ قرأ ابن عامر ‏{‏إِذْ‏}‏ الذين بلفظ التأنيث، وقرأ الباقون ‏{‏الله يَتَوَفَّى‏}‏ بلفظ التذكير‏.‏ وروي عن ابن مسعود أنه كان يُذَكِّر الملائكة في جميع القرآن، خلافاً للمشركين بقولهم‏:‏ الملائكة بنات الله‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏، يعني ذلك العذاب بما قدمت أيديكم من الكفر والتكذيب وبترككم الإيمان‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ يقول لم يعذبهم بغير ذنب‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 54‏]‏

‏{‏كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏52‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏53‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ * وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُواْ بِئَابَائِنَا إِن كُنتُمْ صادقين * أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ من الأمم الخالية‏.‏ ‏{‏كَفَرُواْ بئايات الله‏}‏، يعني جحدوا بعذاب الله في الدنيا أنه غير نازل بهم، ‏{‏فَأَخَذَهُمُ الله‏}‏؛ يعني عاقبهم وأهلكهم ‏{‏بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ وشركهم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله قَوِىٌّ شَدِيدُ العقاب‏}‏، يعني قوي في أخذه، شديد العقاب لمن عصاه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ العذاب الذي نزل بهم، ‏{‏بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ‏}‏ في الدين والنعم؛ فإذا غيّروا، غيّر الله عليهم ما بهم من النعم؛ وهذا قول الكلبي‏.‏ وروى أسباط، عن السدي في قوله ‏{‏لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ‏}‏ قال‏:‏ أنعم الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم على أهل مكة وكفروا به، فنقله إلى الأنصار؛ ويقال‏:‏ أطعمهم من جوع، وأمنهم من خوف، فلم يشكروا، فجعل لهم مكان الأمن الخوف، ومكان الرخاء الجوع‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 112‏]‏ إلى قوله ‏{‏وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 112‏]‏ وقال الضحاك‏:‏ ما عذب الله قوماً قط وسلبهم النعم، ولا فرق بينهم وبين العافية، حتى كذبوا رسلهم؛ فلما فعلوا ذلك ألزمهم الذل وسلبهم العز، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ سميع لمقالتهم، عليم بأفعالهم‏.‏

ثم قال ‏{‏كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ‏}‏ في الهلاك‏.‏ ‏{‏والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيات رَبّهِمْ فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ‏}‏، يعني بكفرهم، ‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ‏}‏؛ يعني فرعون لادعائه الربوبية، وآله لأنهم عبدوا غيري‏.‏ ‏{‏وَكُلٌّ كَانُواْ ظالمين‏}‏، يعني مشركين‏.‏ ومعناه كصنيع آل فرعون، قد أعطاه الله تعالى الملك والعز في الدنيا، ولم يغير عليه تلك النعمة، حتى كذب بآيات الله، فغيَّر الله عليه النعمة وأهلكه مع قومه

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 59‏]‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏55‏)‏ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ‏(‏56‏)‏ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ‏(‏58‏)‏ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏، يعني شر الناس‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ نزلت في بني قريظة، كعب بن الأشرف وأصحابه، لأنهم عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نقضوا العهد وأعانوا أهل مكة بالسلاح على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا‏:‏ نسينا وأخطأنا‏.‏ فعاهدهم مرة أُخرى، فنقضوا العهد؛ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ‏}‏ نقض العهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الحرب‏}‏ يقول‏:‏ إن تظفر بهم في الحرب، يعني في القتال، ويقال‏:‏ إن أدركتهم في القتال، ‏{‏فَشَرّدْ بِهِم‏}‏؛ يقول نكّل بهم في العقوبة ‏{‏مّنْ خَلْفِهِمْ‏}‏، يعني ليتَّعِظْ بهم من بعدهم الذين بينك وبينهم عهد، ويقال‏:‏ افعل بهم فعلاً من العقوبة والتنكيل يفرق به من وراءهم من أعدائك‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ فشرد بهم إنها لغة لقريش، سمع بهم، أي خوِّف‏.‏ والتشريد في كلامهم، التشريد والتفريق‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏، يعني النكال فلا ينقضون العهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً‏}‏، يعني وإن علمت من قوم نقض العهد؛ والخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء، فلا يؤدي الأمانة‏.‏ وسمي ناقض العهد خائناً، لأنه اؤتمن بالعهد فغدر ونكث‏.‏ ‏{‏فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاء‏}‏، أي فأعلمهم بأنك قد نقضت العهد وأعلمهم بالحرب، لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على سواء‏.‏ وقال القتبي‏:‏ إذا أردت أن تعرف فضل العربية على غيرها، فانظر في الآية‏.‏ وقد ترجموا سائر الكتب؛ ومن أراد أن يترجم القرآن إلى لغة أُخرى، فلا يمكنه ذلك، لأنك لو أردت أن تنقل قوله‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً‏}‏ لم تستطع بهذا اللفظ، ما لم تبسط مجموعها وتظهر مستورها فتقول‏:‏ إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد، فخفت منهم خيانة ونقضاً، فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم وآذنهم بالحرب، لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على سواء‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين‏}‏، يعني الناقضين للعهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏، يعني لا يظنن الذين كفروا من العرب وغيرهم من الذين جحدوا بوحدانية الله تعالى ‏{‏سَبَقُواْ‏}‏، يعني فاتوا بأعمالهم الخبيثة ‏{‏إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ‏}‏، يقول لن يفوتوا الله تعالى حتى يعاقبهم، ويقال‏:‏ لا يجحدون الله تعالى عاجزاً عن عقوبتهم‏.‏ قرأ ابن عامر وحمزة وعاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ‏}‏ بالياء على وجه المغايبة ونصب السين، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ‏}‏ بالتاء على وجه المخاطبة ونصب السين، وقرأ الباقون على وجه المخاطبة وكسر السين، وقرأ ابن عامر ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ بالنصب على معنى البناء، وقرأ الباقون بالكسر على معنى الابتداء‏.‏ فمن قرأ بالنصب، معناه لأنهم لا يعجزون، يعني لا يفوتون‏.‏ وقرأ بعضهم بكسر النون ‏{‏لاَ يُعْجِزُونَ‏}‏ يعني لا يعجزونني؛ وهي قراءة شاذة‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 63‏]‏

‏{‏وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏60‏)‏ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏61‏)‏ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ‏}‏، يعني السلاح‏.‏ وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ‏}‏ قال‏:‏ «أَلاَ إنَّ القُوَّة الرَّمْيُ، أَلا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ» ثلاثاً‏.‏ وفي خبر آخر وزيادة‏:‏ «لَهْوَ المُؤْمِنِ فِي الخَلاءِ وَقُوَّتُهُ عِنْدَ القِتَالِ»‏.‏ وروي عن عكرمة قال‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ‏}‏ قال الحصون‏.‏ ‏{‏وَمِن رّبَاطِ الخيل‏}‏، قال الإناث من الخيل‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏تُرْهِبُونَ بِهِ‏}‏، أي تخوفون بالسلاح ‏{‏عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ‏}‏، يعني تخوفون بالسلاح كفار العرب، ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا‏}‏، يعني بني قريظة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَ تَعْلَمُونَهُمُ‏}‏، يعني لا تعرفونهم‏.‏ ‏{‏الله يَعْلَمُهُمْ‏}‏، يعرفهم ويعرفكم، فأعدوا لهم أيضاً‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا‏}‏ أي من دون كفار العرب، يعني اليهود‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا‏}‏ أهل فارس‏.‏

ثم قال ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَئ فِى سَبِيلِ الله‏}‏، يعني السلاح والخيل‏.‏ ‏{‏يُوَفَّ إِلَيْكُمْ‏}‏ ثوابه‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ‏}‏، أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً‏.‏ ويقال‏:‏ إن الجن لا تدخل بيتاً فيه قوس وسهام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ‏}‏، يقول إن أرادوا الصلح ومالوا إليه، ‏{‏فاجنح لَهَا‏}‏؛ يعني مل إليها يعني صالحهم‏.‏ قرأ عاصم في رواية أبي بكر ‏{‏وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ‏}‏ بالكسر، وقرأ الباقون بالنصب لِلسَّلْم‏.‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏، يقول‏:‏ ثق بالله وإن نقضوا العهد والصلح، فإني أنصرك ولا أخذلك‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع العليم‏}‏، يعني سميع بمقالتهم، عليم بنقض العهد‏.‏

قال الفقيه‏:‏ إنما يجوز الصلح إذا لم يكن للمسلمين قوة القتال؛ فأما إذا كان للمسلمين قوة فلا ينبغي أن يصالحوهم، وينبغي أن يقاتلوهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية إن لم يكونوا من العرب‏.‏ وإنّما لم توضع الجزية على العرب وتوضع على غيرهم، حتى لا تبقى بقية كفر في أنساب النبي صلى الله عليه وسلم، لأن العرب كلهم من نسبه، ولا توضع حتى يسلموا أو يقتلوا‏.‏ إنما أمر الله تعالى نبيه بالصلح، حين كانت الغلبة للمشركين وكانت بالمسلمين قلة‏.‏

ثم قال ‏{‏وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ‏}‏ بالصلح، يعني يهود بني قريظة أرادوا أن يصالحوك لتكف عنهم، حتى إذا جاء مشركو العرب أعانوهم عليك، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ حَسْبَكَ الله‏}‏، يعني إن أرادوا إن يخدعوك، فإن حسبك الله بالنصرة لك‏.‏ ‏{‏هُوَ الذى أَيَّدَكَ‏}‏، أي أعانك وقواك ‏{‏بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين‏}‏، يعني الأنصار وهم قبيلتان‏:‏ الأوس والخزرج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ‏}‏، يعني ليّن قلوبهم من العداوة التي كانت بين الأوس والخزرج في الجاهلية‏.‏ ‏{‏لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارض جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ‏}‏، يعني ما قدرت أن تؤلف بينهم، ‏{‏ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ‏}‏ بالإسلام‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ حكم بالألفة بين الأنصار بعد العداوة، وحكم بالنصر على أعدائه‏.‏

وروى أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ نزلت هذه الآية في المتحابين في الله ‏{‏لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارض جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ‏}‏ وقال عبد الله‏:‏ المؤمن متألف يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف‏.‏ قوله تعالى‏:‏